languageFrançais

نابل: غلق طوعي لمعظم المقرات الحزبية.. هل حلّت الأحزاب نفسها ؟


تكشف جولة ميدانية في مختلف معتمديات ولاية نابل عن شبه اختفاء للافتات تشير لمقرات جهوية للأحزاب حتى لا تكاد تعثر على مقر واحد مفتوح...بل إن بعض المقرات التي مازالت تنشط تفتح لساعات قليلة في بعض أيام الأسبوع وتشير لها لافتة مصغرة بدل ما كان متعارف عليه من وجود لافتات وشعارات الحزب بأحجام كبيرة منذ سنوات.

عدد آخر من المقرات مازال يحمل لافتة بهت حبرها لكن المقرّ مغلق، فهل حلّت الأحزاب نفسها أم هي مرحلة مؤقتة من السبات والعزوف عن النشاط؟

وجدير بالذكر أن آخر الارقام الرسمية تشير إلى وجود حوالي 240 حزبا مرخصا له بالنشاط وبعناوين واضحة لكن معظمها لا أثر لها على أرض الواقع.

وللوقوف على أسباب هذا الإختفاء، طرحنا السؤال على عدد من القيادات الحزبية ومختصين في الشأن السياسي.

الوضع الاقتصادي حتّم تقليص عدد المقرات

وفي تصريح لموزاييك قال صدام علاقي عضو حزب العمال ومنسق جهوي بولاية نابل، إنّ الحزب يحتفظ بمعظم مقراته الجهوية ممثلة في أغلب المعتمديات لكنه تماشيا مع الوضع الاقتصادي قلص عددا منها للحد من المصاريف.

ولم ينف العلاقي في التصريح ذاته "تراجع النشاط الحزبي وانسحاب عدد من منخرطيه بتعلة دقة الوضع السياسي العام في البلاد بعد إجراءات 25 جويلية 2021 وما تلاها من حلّ للبرلمان وسن قانون انتخابي قائم على الاقتراع على الأفراد ما جعل دور الأحزاب يضمحلّ في المحطات الانتخابية، فضلا عن ضمور نزعة النضال في ظل ظرف اتسم بملاحقة وشيطنة عدد من الأحزاب والقادة السياسيين"، وفق تقديره.

وقال عضو حزب آخر (رفض ذكر اسمه) ترأسته شخصية بارزة ملاحقة قضائيا إن "المقر الجهوي للحزب استرجعه احد المنخرطين ليحوله إلى مقهى بحجة تراجع نشاطات الحزب وتدهور الوضع الاقتصادي ففضّل إدماج المحل في الدورة الاقتصادية بدل الحياة السياسية".

الأحزاب ولدت لتقاوم المتغيرات

اما زهير المغزاوي أمين عام حركة الشعب فأعتبر ان حزبه "ولد مناضلا ويواصل نضاله بعرق جبينه، ورغم الوضع السياسي العام الرافض لوجود الأحزاب فإن الحركة تواصل وجودها وعملها وترفض الرضوخ للاكراهات".

وأضاف المغزاوي "لذلك تحتفظ الحركة بمجمل مقرات مكاتبها الجهوية وإن أغلقت البعض منها فهو نتيجة لتدهور الوضعية المالية للشعب التونسي ومن ضمنهم منخرطي الحركة الرافد المالي الأول للحزب والممول لفتح المقرات المحلية والجهوية".

وفي نفس السياق قال إنه بدوره لاحظ حالة الانكفاء والاضمحلال لعدد من الأحزاب بحجة دقة الوضع العام في البلاد ولكنه يقسمهم إلى قسمين؛ قسم لا يستغرب اندثاره إذ يصفه بأحزاب ظرفية ولدت في ظرف ما وتركزت حول شخصية سياسية في سدة الحكم أو مقربة من دوائر النفوذ، كحزب "تحيا تونس" بزعامة يوسف الشاهد أو حزب البديل بزعامة مهدي جمعة أو حزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي وهي عينة اندثرت باندثار نفوذ الزعيم فلا برامج ولا رؤيا ولا امتداد نضالي قاعدي سمح لها بمواصلة الثبات في الساحة السياسية، أما القسم الثاني فهي أحزاب لم تقو على مواصلة النشاط والتحرك في ظل مناخ عام شيطن الأحزاب واعتبر أن دورها انتهى .

وأكد المغزاوي أنه لا يقتنع بحجة الانكفاء وتبرير هذا التقوقع لدى هاته الفئة معتبرا أن الأحزاب وُجدت دوما لتصارع وتناضل وتصمد في وجه المتغيرات لا أن تنشط متى كان المناخ معتدلا "!

مناخ غير آمن وراء غلق المقرات

قيادي آخر في حزب حركة النهضة طلب عدم ذكر هويته، قال إن "غلق مقرات الحزب يعود لما تعرّض له قادة الحركة والحزب من اتهامات وشيطنة وتجييش للرأي العام ضده، حيث طالت مقرات الحزب أعمال عنف منذ يوم 25 جويلية 2021".

وأردف قائلا "يواصل مناضلو الحركة اجتماعاتهم عن بعد مع اختزال هذه الاجتماعات والإكتفاء بالتداول في ما يهم الحزب والمتغيرات المتلاحقة من تتبعات قضائية وحملات تشويه تلاحق قادة الحركة وإجمالا لا نر المناخ آمنا للعمل الحزبي في هاته المرحلة" .

مرض الزعامة سبب وأد الأحزاب

وقال قيادي سابق من نفس العائلة السياسية ممن استقال من حركة النهضة لتأسيس حزب آخر مع جمع من زملائه "إنه بعد 25 جويلية 2021 لم يمض بعيدا في مشروعه السياسي الجديد إذ تصادمت الآراء وبعد فترة تمعّن أصبحت لديه قناعة أن الفضاء الحزبي ليس الوعاء الأفضل لبلورة أفكاره ورؤاه السياسية ".

وأضاف "تراجعت عن العمل الحزبي كما أن الحزب الجديد رغم حصوله على التأشيرة وإعلان ميلاده لم يتقدم خطوة في بنائه الهيكلي ودخل فعلا في مرحلة سبات لا نعلم مداها في ظل هذا الظرف الدقيق الذي تشهده البلاد"، مقرّا أن الملاحقات القضائية وشيطنة الأحزاب تعد من أبرز أسباب هذا الركود قائلا "أنا مثلا لم أعد أرغب لا في الظهور ولا في تداول اسمي".

وفي معرض تقييمه للعمل الحزبي في تونس أكّد "مرض الزعامة وتمسّك قادة الأحزاب بتصدر المشهد السياسي واحتكار الحزب سبب وأد الأحزاب وما آلت إليه  من تشرذم".

وانتهى المتحدثون من قيادات حزبية إلى أن حالة السبات الحزبي وغلق المقرات ينسحب على بقية ولايات الجمهورية لا فقط ولاية نابل.

أوهام فإحباط ثم قطيعة !

أما الباحث في التاريخ المعاصر والمحلل السياسي خالد عبيد فاعتبر في تصريح لموزاييك، ان "ما تعيشه تونس منذ سنة 2011 يشبه ما عاشته الجزائر في فترة الثمانينات خلال ما يعرف بفترة الانفتاح حيث شهد البلدين طفرة في بعث الاحزاب ولكن الفترة في تونس طالت لعدة سنوات مقارنة بنظيرتها الجزائرية".

ووصف عددا من الأحزاب التي ظهرت إبان الثورة بدكاكين حزبية واجهتها قيادي سياسي وحيد ولم تستطع أن تكوّن قاعدة حزبية تسمح بامتدادها في البلاد.

وأضاف "ما حدث لهذه الأحزاب من تشظي وتبدّد فمرده الوعود الانتخابية الخيالية التي أطلقها هؤلاء القادة واستحالة تحققها على أرض الواقع حتى واجه المواطن إحباطا وخيبة أمل تطورت مثل كرة الثلج حتى تلتها قطيعة مع الأحزاب". 

ووفق عبيد فإن "تنامي الخيبة والإحباط على مر السنوات ومرورا بمختلف المحطات الانتخابية ولّد لدى المواطن التونسي قطيعة مع الحياة السياسية انتهت بهجر الأحزاب والعزوف عن الانتخاب".

تغيب الأحزاب عندما تغيب الديمقراطية

من جهته بيّن الباحث في الشؤون السياسية والتاريخ المعاصر أيمن البوغانمي، في تصريح لموزاييك إنّ "غياب الأحزاب من المشهد الميداني والإعلامي هو انتصار لنظام الحكم الحالي في تونس ودليل آخر على ضعف المنظومة الديمقراطية التي حاولنا تركيزها في تونس."

ولفت البوغانمي إلى أن قائمة التأشيرات الممنوحة لأكثر من مائتي حزب لا تعكس حقيقة الحياة السياسية في تونس بعد 2011 إذ هيمنت حوالي عشر أحزاب فقط على المشهد ومعظمها دخل في سبات وجمّد نشاطه طوعا.

ويعدّد البوغانمي أسباب هذا الاختفاء للأحزاب بالقول "أولا، لصعوبة ما آلت إليه الأوضاع في الحياة السياسية بسبب غياب الديمقراطية فعمل الأحزاب أسهل في مناخ ديمقراطي وحتى من يلاحق من القيادات قضائيا يتم الدفاع عنه بشكل شرس ومتعدد الأوجه ويتم التحذير من الانحرافات وهو ما يطمئن القواعد فتدعم العمل الحزبي وتستثمر فيه".

وعن العوامل الاقتصادية قال الباحث السياسي "هي فعلا من بين ضمانات الديمقراطية أن يستثمر فرد او عائلة في الحياة السياسية، سواء بدعم مالي مباشر أو بتوفير مقرات وهو شرط من شروط الحياة الديمقراطية الذي لم نستوعبه في تونس، وبانتفاء الديمقراطية ينتفي الاستثمار الحزبي". 

وتابع "مناخ العمل السياسي في تونس لا يسمح بامتداد العمل الحزبي والاستثمار فيه لأنه مناخ يقوم على الخوف من المرسوم 54، وهو مناخ يقوم على هيمنة السلطة على الحياة السياسية وعلى شخصنة الحياة السياسية، وهي ظروف لا تسمح بتطور العمل الحزبي.

وتعليقا على مقولة لرئيس الجمهورية قيس سعيد "انتهى عصر الأحزاب" أوضح البوغانمي "عندما تغيب الديمقراطية تغيب الأحزاب فعلا فالأحزاب انتهى وقتها لأن الديمقراطية انتهت في تونس، لأن الأحزاب ظاهرة ديمقراطية". وأضاف إن أخطر ما أتاه سعيّد ليس فقط تغيير النظام الانتخابي بل والغاء دستور 2014 وفق تعبيره.

وختم البوغانمي بالقول "لم تغلق مقرات الأحزاب فقط في تونس بل اغلقت ايضا مقرات عدد من منظمات المجتمع المدني وكذلك المؤسسات الإعلامية وهذا ليس مصادفة بل هو وليد سلطة تريد أن تحكم وحدها دون معارضة ودون معايير ديمقراطية حقيقية.. وهذا انتصار للسلطة الحاكمة ولكنه ليس انتصارا للديمقراطية وليس انتصارا لتونس وللشعب".

*سهام عمار